إيران وسياسة الاعتدال- نظرة على تصعيدات حزب الله وتداعياتها.

المؤلف: رمضان بورصة10.09.2025
إيران وسياسة الاعتدال- نظرة على تصعيدات حزب الله وتداعياتها.

في تطور بالغ الخطورة يُنذر بتصعيد إضافي، شنّ الجيش الإسرائيلي في السابع والعشرين من أيلول/سبتمبر 2024 هجمات مُباغتة على الضاحية الجنوبية لبيروت، تلك المنطقة التي تُعد بمثابة القلب النابض لحزب الله، حيث يقع مقرّه الرئيسي. هذا الاعتداء يمثل منعطفًا حادًا في مسار الاشتباكات المتواصلة بين حزب الله وإسرائيل منذ الثامن من تشرين الأول/أكتوبر 2023، والتي شهدت تصاعدًا ملحوظًا في وتيرتها خلال الأسابيع القليلة الماضية. وعلى الرغم من هذه التطورات المقلقة، تشير التصريحات الصادرة من العاصمة الإيرانية طهران إلى أن إيران لا ترغب إطلاقًا في تأجيج نار التوتر أو الانزلاق إلى حرب إقليمية شاملة.

منذ اللحظة التي بدأت فيها أحداث "طوفان الأقصى"، تدفقت سلسلة من التصريحات من كبار المسؤولين الإيرانيين، وعلى رأسهم المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية الإيرانية، آية الله علي خامنئي، الذي يُعد الصوت الأعلى في هرم السلطة الإيرانية.

كما أدلى بتصريحات مماثلة كل من الرئيس الإيراني الراحل إبراهيم رئيسي، ووزير الخارجية الأسبق حسين أمير عبد اللهيان، والمتحدث الرسمي باسم وزارة الخارجية ناصر كنعاني، والرئيس الحالي للجمهورية مسعود بزشكيان، ووزير الخارجية الحالي عباس عراقجي، بالإضافة إلى الممثل الدائم لإيران لدى الأمم المتحدة وعدد آخر من الشخصيات البارزة. هذه التصريحات ركزت في جوهرها على نقطتين محوريتين، وهما: "الضرورة الملحة لتحقيق وقف دائم لإطلاق النار في قطاع غزة المحاصر"، و"الحيلولة دون اتساع رقعة الحرب وامتدادها إلى مناطق أخرى في الإقليم".

وفي معرض ردّها على الهجوم الذي استهدف السفارة الإيرانية في العاصمة السورية دمشق، أكدت إيران في بيان رسمي لها أنها "مارست حقها المشروع والمكفول بموجب القانون الدولي"، مع التشديد على أنها "لا تسعى إطلاقًا إلى الدخول في صراع مُسلح أو حرب مع إسرائيل".

إلا أن الهجوم الإسرائيلي الذي استهدف المقر الرئيسي لحزب الله في بيروت، والذي أسفر عن مقتل الأمين العام للحزب، سماحة السيد حسن نصر الله، يُعد بمثابة تحول دراماتيكي في مسار المواجهات بين حزب الله وإسرائيل، ويُنذر بمرحلة جديدة من التصعيد.

يبقى السؤال المطروح بقوة، والذي يتردد صداه بين ثنايا التصريحات الصادرة من إيران، هو: هل سيؤدي هذا الهجوم النوعي إلى تغيير جذري في سياسة "الاعتدال" التي تبنتها إيران منذ بداية الأزمة؟ هذا ما ستكشف عنه الأيام القادمة.

طهران مصممة على الحفاظ على "سياسة الاعتدال"

قبل نحو نصف ساعة فقط من إعلان حزب الله عن نبأ استشهاد أمينه العام، السيد حسن نصر الله، في الهجوم الإسرائيلي، أشار آية الله خامنئي في تصريح له إلى أن "إسرائيل تتمادى في قتل النساء والأطفال الأبرياء في غزة منذ ما يقرب من عام، وأنها بدأت الآن في ممارسة نفس الجرائم البشعة في لبنان". كما أكد سماحته على أن "إسرائيل، باعتبارها كيانًا صغيرًا وهشًا، غير قادرة على إلحاق ضرر جسيم بالبنية القوية والمتماسكة لحزب الله في لبنان".

وأوضح كذلك أن "الوقوف صفًا واحدًا إلى جانب لبنان وحزب الله في مواجهة النظام الإسرائيلي الظالم والشيطاني، هو واجب ديني وأخلاقي يقع على عاتق جميع المسلمين في شتى بقاع الأرض". وفي أعقاب الهجوم الإسرائيلي الذي استهدف المقر الرئيسي لحزب الله في الضاحية الجنوبية لبيروت، أصدر الرئيس الإيراني، مسعود بزشكيان، بيانًا شديد اللهجة أكد فيه أن "الهجوم الإسرائيلي الغاشم على حزب الله يُعد جريمة حرب واضحة المعالم لا يمكن إخفاؤها أو تبريرها بأي شكل من الأشكال، ويكشف بجلاء عن طبيعة الإرهاب الحكومي الذي يمارسه الكيان الصهيوني".

وأشار بزشكيان إلى أن "الجرائم المتواصلة التي يرتكبها النظام الصهيوني الغاصب ضد شعبي فلسطين ولبنان الشقيقين، تُظهر بجلاء عجز المجتمع الدولي وتقاعسه عن إيقاف آلة الإرهاب الإسرائيلية". كما تثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن "هذا النظام يشكل التهديد الأكبر للسلام والأمن الإقليمي والدولي". ودعا الرئيس الإيراني جميع دول العالم، وخاصة الدول الإسلامية، إلى "إدانة الهجوم الإسرائيلي الآثم على حزب الله بأشد العبارات".

مؤكدًا أن "إيران تشارك لبنان الشقيق أحزانه على هذه الخسارة الفادحة، وستواصل عن كثب متابعة جرائم إسرائيل الأخيرة، وتقديم كل الدعم والمساندة للشعب اللبناني المقاوم وللمقاومة الإسلامية الباسلة". وفي بيان مماثل، أصدر وزير الخارجية الإيراني، عباس عراقجي، تصريحًا عقب الهجوم، قال فيه إن "إسرائيل ارتكبت جريمة حرب مكتملة الأركان بقتلها الأبرياء، وخاصة النساء والأطفال، في لبنان".

وانتقد عراقجي بشدة المجتمع الدولي والدول التي تدعي الدفاع عن حقوق الإنسان لصمتها المريب وعدم تحركها لوقف هذه الجرائم. كما أوضح أن عجز المجتمع الدولي والدول الداعمة لإسرائيل عن إيقاف المجازر المروعة في غزة، هو ما شجع إسرائيل على استهداف لبنان بتهور واستخفاف.

وفي ختام بيانه، شدّد عراقجي على أن "إسرائيل تشكل التهديد الأكبر للسلام والأمن الإقليمي والدولي، وأنها تسعى جاهدة لجر المنطقة إلى أتون حرب شاملة". وخلال جلسة خاصة عُقدت في مجلس الأمن الدولي لبحث الوضع في لبنان، أدان عراقجي الجرائم التي ارتكبتها إسرائيل في كل من غزة ولبنان. مشيرًا إلى أنه "لم يُتخذ أي إجراء فاعل لإيقاف "الإبادة الجماعية المروعة" التي ترتكبها إسرائيل في غزة، بل على العكس من ذلك، تُكافَأ إسرائيل على أفعالها الشنيعة".

وأضاف وزير الخارجية أن "نتنياهو وحلفاءه وداعميه يحلمون بتكرار مجازرهم الوحشية في لبنان، وجر المنطقة بأكملها إلى حرب طاحنة، معتمدين في ذلك على الدعم اللامحدود الذي تقدمه لهم الولايات المتحدة الأمريكية".

ومن جهته، دعا رئيس مجلس الشورى الإسلامي الإيراني، محمد باقر قاليباف، الدول الإسلامية إلى التحرك العاجل لوقف العدوان الإسرائيلي، مؤكدًا أن "محور المقاومة سيرد بقوة وحزم على الجرائم الإسرائيلية، وذلك دون إدخال إيران في دائرة الصراع بشكل مباشر".

وبالنظر إلى التصريحات التي أدلى بها آية الله خامنئي والمسؤولون الإيرانيون البارزون بعد الهجوم العنيف الذي استهدف حزب الله، وأدى إلى مقتل أمينه العام، نجد أن "طهران لم تغير قيد أنملة في سياستها القائمة على "الاعتدال" وتجنب التصعيد". إذ يُعتبر توقيت تصريح خامنئي حول الهجوم الإسرائيلي قبل إعلان نبأ استشهاد نصر الله خطوة إستراتيجية مُحكمة. كما تؤكد تصريحات خامنئي والرئيس بزشكيان والمسؤولين الآخرين أن "طهران لا تسعى إطلاقًا إلى اندلاع حرب إقليمية واسعة النطاق قد تجرّ إيران إليها، وهي لا ترغب في الدخول في حرب مباشرة مع إسرائيل مهما كانت الظروف".

الخط الأحمر الإيراني

وبالنظر إلى الرسائل بالغة الأهمية التي وجهها "بزشكيان" خلال مشاركته الفعالة في اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة في مدينة نيويورك الأمريكية، يمكن القول بيقين إنها "توضح بجلاء ووضوح أولويات إيران في المرحلة الراهنة".

ففي اجتماع مطول مع رؤساء المؤسسات الإعلامية الأميركية الكبرى، صرح بزشكيان بجرأة بأن "إيران على أتم الاستعداد للتخلي عن جميع أسلحتها، شرط أن تقوم إسرائيل بالمثل وتتخلى عن ترسانتها النووية". وفي لقاء آخر ودّي ومفتوح مع الإيرانيين المقيمين في أميركا أثناء تناول وجبة العشاء، قدم بزشكيان رسائل أكثر أهمية وعمقًا.

فقد حذر في خطابه الإيرانيين من "العواقب الوخيمة والنتائج الكارثية للأزمات الداخلية المتفاقمة في إيران". مشيرًا بأسف إلى أنه "إذا استمرت التوترات الداخلية على هذا المنوال، فإن الشعوب المختلفة التي تعيش في إيران، مثل: الأتراك، والأكراد، والبلوش، والعرب، قد يسعون جاهدين إلى إنشاء دول مستقلة خاصة بهم، مما سيؤدي في نهاية المطاف إلى زوال الدولة التي نعرفها باسم إيران".

بالإضافة إلى ذلك، عقد "عراقجي" مؤتمرًا صحفيًا موسعًا في نيويورك، أجاب فيه بصراحة وشفافية عن سؤال أحد الصحفيين حول "ما إذا كان حزب الله قد طلب رسميًا من إيران التدخل عسكريًا لدعمه في مواجهة إسرائيل".

ورد قائلًا: "حزب الله يتخذ قراراته السياسية والعسكرية بنفسه، وهو قادر تمامًا على حماية نفسه وحماية لبنان وشعبه من أي عدوان". وهنا، يتضح جليًا أن "الخط الأحمر" بالنسبة لإيران هو "ضمان الانتقال السلس والسلمي للسلطة بعد رحيل آية الله علي خامنئي". والسياسة التي بدأت مع انتخاب "رئيسي" رئيسًا للجمهورية في عام 2021، تستمر الآن مع "بزشكيان" في إطار "سياسة الاستعداد الدقيق لمرحلة الانتقال". حيث تهدف الدولة الإيرانية، من خلال هذه السياسة التي تجري تحت إشراف "خامنئي" المباشر، إلى تقليل الهشاشة والتحديات المحتملة التي قد تظهر بعد وفاته، وتجاوز الأزمات الاجتماعية التي قد تنشأ بسهولة أكبر من ذي قبل.

من ناحية أخرى، يمكن الإشارة بوضوح إلى أن "إيران تمر بمرحلة بالغة الدقة والحساسية تتمثل في نقل مكاسب الثورة الإسلامية التي اندلعت في عام 1979 إلى ما بعد حقبة خامنئي بطريقة مستقرة وآمنة". ولذلك، تخشى إيران بشدة من أن تؤثر تحركاتها العسكرية المباشرة ضد إسرائيل سلبًا على التركيبة الاجتماعية الهشة والضعيفة داخل البلاد.

وتدفع سياسة "الاستعداد لمرحلة الانتقال" هذه طهران بإصرار إلى التركيز بشكل أساسي على الشؤون الداخلية وتجنب التورط في الأزمات الإقليمية المتفاقمة، مع الحفاظ في الوقت نفسه على الأمن الوطني كأولوية قصوى. ومقارنة بالتصريحات النارية التي أعقبت اغتيال إسماعيل هنية في طهران، تُعد التصريحات الإيرانية التي صدرت بعد الهجوم الذي أدى إلى مقتل نصر الله أكثر هدوءًا وتحفظًا. ويعود ذلك بشكل أساسي إلى خشية إيران من أن يؤدي تعزيز فكرة الدخول في حرب مباشرة إلى تقويض سياسة "الاستعداد لمرحلة الانتقال" التي تنتهجها.

كما أن من صميم مصلحة إيران الوطنية العليا أن يتحقق وقف فوري لإطلاق النار في أقرب وقت ممكن، وأن يتم خفض حدة التوترات المتصاعدة في المنطقة بأسرع ما يمكن.

التأثير النفسي للتطورات على محور المقاومة

أظهرت حرب "طوفان الأقصى" والهجوم الإسرائيلي الجبان على السفارة الإيرانية في دمشق، بالإضافة إلى الهجمات المتكررة ضد حزب الله، فجوة واسعة وتناقضًا صارخًا بين الخطاب المعلن والواقع العملي على الأرض.

ويمكن القول بوضوح إن "الموقف الضعيف عمليًا الذي تبديه إيران مقارنة بالتصريحات القوية والملتهبة التي تطلقها تجاه إسرائيل، قد أدى إلى إحباط كبير وخيبة أمل واسعة النطاق في المجتمعات التي تدعم محور المقاومة بقيادة إيران في المنطقة".

وفي تصريح حصري حصل عليه الكاتب من عضو نشط في مليشيا "البسيج" التابعة للحرس الثوري الإيراني، والذي فضل عدم الكشف عن اسمه لحساسية منصبه، وشخص آخر يعمل في قسم المعلومات التابع للحشد الشعبي في العراق، أوضحا أن "ما حدث على الجبهة اللبنانية، واختيار إيران لموقف أضعف بكثير مقارنة بخطابها الناري، قد تسبب في خيبة أمل كبيرة لهم وللأوساط الواسعة التي تدعم محور المقاومة".

وأضافا أن "الهجمات الموجعة التي شنتها حركة أنصار الله اليمنية الباسلة ضد أهداف إسرائيلية حيوية، قد أعادت الأمل إليهم، ورفعت معنوياتهم التي كانت متدهورة بشدة".

تشير هذه التطورات المتسارعة إلى أن الجماعات المسلحة التي تنضوي تحت ما يُعرف بـ "محور المقاومة"، بما في ذلك إيران نفسها، قد تجد نفسها مضطرة في نهاية المطاف إلى "تبني موقف أكثر توافقًا وواقعية بين التصريحات النارية والأفعال الملموسة على الأرض".

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة